الاثنين، 13 أبريل 2009

مقال الأستاذ يحيى القيسي المنشور بصحيفة القدس العربي (لندن) الأثنين 13/4/2009

الشيخ النيّل : الرجل الذي علمني الحب


يحيى القيسي*

تقلبت بين الإيمان والشك مرات عديدة خلال العقود الأربعة الماضية، و شهدت ظلمة الخواء وإشراق الامتلاء معا، كنت صبيا يافعا يمضي للصلوات المكتوبة في الجامع، ويحرص على الصوم في عز الحر، ويمضي إلى العمرة مرات لا يأبه بالزمهرير ولا بتقلبات الفصول خوفا من النار وطمعا في الجنة وجمع الحسنات..!
تنقلت ما بين الدين التقليدي النقلي إلى الدين الذي يرغب ببناء دولة سياسية إلى الروحانيات، كنا في بداية الثمانيات في معهد البوليتكنيك بعمان في حالة عجيبة من الحماس باتجاه مشروع الإخوان المسلمين، وكان لهم حضور طاغ بين الطلبة، ولديهم طريقتهم في اجتذاب العناصر من العاملين والمؤازرين والتعارف " أخوك في الله " فيما كان الشيخ الراحل عبدالله عزام (معلم ابن لادن كما عرفنا لاحقا ) يأتي ليؤم بالمصلين ويقدم المحاضرات النارية، ورغم إحاطتي بالكثير من الإخوان إلا أننّي لم استطع أن أكون معهم، فقد بدأ الخلاف من سماع الموسيقى - التي أحبها – وحرمتها، وانتهاء بقول أحدهم لي "لا يدخل الجنة من كان من غير الإخوان المسلمين لأنهم الفرقة الناجية" وأشياء أخرى تتعلق بطبيعتي في عدم التقيد الحزبي والركون إلى التعليمات المعلبة، وقلقي الوجودي الذي أفضى بي في ليلة ليلاء إلى الخروج من الدين نهائيا وبدء مرحلة من الإلحاد استمرت عشر سنوات، وبالطبع فقد سبقتها قراءات في الفلسفة والمادية الجدلية واقتراب من المثقفين الشيوعيين والعلمانيين.
سقت هذه المقدمة لأقول بأن عودتي إلى الله كانت بطريقة مغايرة هذه المرة فقد اقتربت من عالم التصوف والقراءات المكثفة في الأديان، وهي عودة ترضي القلب والعقل معا، و تقوم على الحب لا على الأخوة، الحب المطلق لكل البشر ولكل الموجودات والتفاعل مع الكون كوحدة واحدة، وعلى معرفة الله حقا لا ادعاء، فمن عرف نفسه عرف ربه، ولقد كان المعلم لي في كل ذلك الشيخ النيل أبوقرون الصوفي والمفكر الإسلامي السوداني المتنور والمختلف والجريء.
علمني هذا الرجل حبّ الرسول محمد صلى الله عليه وآله وبارك كما يليق بمقامه، لا كما أسيء اليه بالنقل والأحاديث، وعلمني كيف نتقبل الأديان الأخرى السماوية ونفهمها لا أن نرمي أهلها بالضلال والكفر، أن نكون قدوة حسنة مبشرين لا منفرين، وطيلة سنوات مضت كان يقيم في معظمها في الأردن اقتربت من فكر هذا الرجل العالم العارف، تغيرت خلالها شخصيتي ونظرتي إلى الوجود بشكل إيجابي، وشعرت بتلك الغبطة الجميلة للإيمان، وبتلك الحلاوة والطلاوة لآيات الله، وبتلك السعة لقبول الآخر والغفران، وصار الإيمان سلوكا يوميا ينعكس على كل شاردة وواردة دون أن ألبس العمامة ولا أن اسلك طريق الدراويش، ولا أن اختبئ تحت الأرض خوفا من أفكاري، فلا شيء يبعث على القلق بل المزيد من الإيجابية والتفاعل مع الناس والحب بعمقه الحقيقي وإعمار الأرض لا السعي إلى خرابها، وفهمت من أفكار الرجل أن الدين لا علاقة له بالسياسة، بل تم جره قسرا إلى تلك المنطقة التي نعاني من آثارها إلى اليوم، وأنه لا إكراه في الدين، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وهذا من صريح القرآن، وتعلمت بأنّ عصمة النبي العظيم وخلقه القويم أمر لا ينبغي التهاون فيه، ولا تقديم لأحد من الأصحاب أو الأتباع على المعلم الأعظم، وتعلمت أيضا بأن عبادة الله تكون لأنه يستحقها لعظمته لا طمعا في جنته ولا خوفا من ناره..!
لست هنا في معرض ذكر آثار الشيخ النيل وعلومه عليّ وعلى أحبابه في مشارق الأرض ومغاربها، ولكن الأمر يأتي في ظل تلك الهجمة الظالمة التي تقودها دائرة المطبوعات والنشر في الأردن لمحاكمة الشيخ ورسائله التي صدرت عن دار نشر أردنية، وهي أمر يسيء حقا إلى الأردن وصورته الديمقراطية وحق التعبير، ويجعله مكانا لمحاكمة الأدباء والمفكرين العرب على آرائهم، ولقد تابعت الأمر في بداياته، ولكن إصرار مدير المطبوعات على رفع الدعوى كان أمراً عجيبا، مستندا إلى تقرير من طالب شريعة متخصص كما قال لي هو شخصيا بمياه الخزانات الشمسية وهل يجوز الوضوء بها أو لا، وأنه لا يعرف في الفكر الإسلامي الكثير...!
أعرف بأنّ الشيخ النيل يعيش معززا مكرما في الأردن وليس ثمة من يتربص به من قبل الدولة، بل الأمر كما سلف تلك النظرة الضيقة لدائرة المطبوعات التي انشغلت في الفترة الماضية في تشويه صورة الأردن دوليا عبر رفع القضايا للمحاكم ولنا في الشاعر إسلام سمحان والشاعر طاهر رياض والناشر والروائي الياس فركوح والناشر فتحي البس أمثلة ساطعة، وقد آن الأوان لتتدخل الدولة في وقف تشويه صورتها أمام الإعلام الدولي وحقوق التعبير بهذا الشكل المجاني .

أعود فأقول بأن كتاب الشيخ النيل موضع المحاكمة "مراجعات في الفكر الإسلامي" ينبغي أن يكون مرجعا لكل الراغبين بمعرفة الحقيقة من المسلمين في قوة حجته واجتهاداته الحداثية الجريئة والجديدة وفي دفاعه عن الحبيب المصطفى وآله المطهرين، وفي تلك النظرة المغايرة للإسلام حيث يفتح باب الاجتهاد ويفكر في الضياء ويحتفي بالحب، وقابل لأن يغير أناساً أمثالي تقلبت قلوبهم بين الظلمات والنور يبحثون عما يحقق الطمأنينة للعقل والروح والجسد دون تفريط، ويحتفون بالإسلام المتسامح والحقيقي القادم من الله ورسوله لا من الذين نصبوا أنفسهم نواباً عنه كأنهم يملكون مفاتيح الجنان والنيران، والحساب والعقاب ولا حول ولا قوة إلا بالله.


*أمين عام رابطة القلم الدولي – فرع الأردن

ليست هناك تعليقات:

من نحن

صورتي
مجموعة من الأحباب التقوا على النور المبين في حب خير المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وبارك وشيخهم في ذلك النيل أبو قرون حفظه الله ورعاه.